٢٨‏/٢‏/٢٠٠٩

تقرير الحالة الدينية.. "أنا لا أكذب ولكني أتجمل"!!




كتب: أحمد التلاوي

أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية مؤخرًا تقريرها الجديد عن حالة حقوق الإنسان والحريات الدينية في العالم للعام 2008م، وإن كان هناك العديد من التقارير التي تصدُر بشكلٍ دوريٍّ عن حالة حقوق الإنسان في بلدان العالم المختلفة، ومن بينها بلدان العالم العربي والإسلامي؛ فإنَّ تقرير وزارة الخارجية الأمريكية يعدُّ الأهم والأكثر إثارةً للجدل بامتياز.

وتنتظر الدوائر الإعلامية والسياسية في العالم سنويًّا التقرير؛ ليس لكي تعرف فحسب وضعية البلدان الرئيسية على المستويين الإقليمي والدولي في هذا المستوى من التقييم (حقوق الإنسان والحريات الدينية..)، وإنِّما لكي تعرف أيضًا الاتجاهات العامة لرياح السياسة الخارجية الأمريكية.

فالتقرير يحمل في الكثير من طياته العديد من علامات الرضا والسخط الأمريكي على البُلدان التي يتناولها التقرير، وكذلك يستنبط الكثيرون من بين طياته طبيعة الاتجاهات الراهنة للعلاقات الأمريكية مع هذه البلدان المعنية، وما يثير انتباه صانع القرار في فريق السياسة الخارجية والأمن القومي الأمريكي في هذه البلدان من قضايا وأحداث.

ولكن على الجانب الآخر، فإنَّ التقرير الأمريكي يكتسب قيمته من أنَّه يرصد وقائع حقيقية في البلدان المختلفة التي يغطيها، ولذلك فإنَّ مشكلاته الرئيسية لا تتعلق بقضية مصداقية ما يذكره من مشكلاتٍ، بل في انتقائيته؛ حيث إنَّ التقرير يذكر الحقيقة، ولكن ليس كل الحقيقة، فيتجاهل مثلاً الكثير من الانتهاكات التي ترقى إلى مستوى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي تُرتكب من جانب الكيان الصهيوني، سواءٌ في الأراضي الفلسطينية المحتلة أو في فلسطين الداخل ضد سكان البلاد الأصليين، من فلسطينيي وعرب 48.

كما أنه يركِّز على الكثير من البلدان التي لا يوجد فيما بينها وبين الولايات المتحدة الكثيرُ من الودِّ المفقود، فهو يركِّز على الصين وروسيا وكذلك البلدان التي تعارض الولاياتُ المتحدة الأنظمةَ الحاكمةَ فيها، مثل كوريا الشمالية، وكوبا، وايران، والسودان، وميانمار (بورما سابقًا)، وزيمبابوي.



أهمية إضافية


ويكتسب التقرير الأمريكي الجديد أهميةً إضافيةً من كونه الأول الذي يصدر في حقبة الديمقراطيين الجدد؛ الذين وصلوا إلى الحكم في الولايات المتحدة، سواءٌ في البيت الأبيض أو في الكونجرس الأمريكي بمجلسيه، وهي ظاهرة لم تتكرر منذ نحو عقدَيْن من الزمان، وتحديدًا منذ الإدارة الأولى للرئيس الديمقراطي الأسبق بيل كلينتون؛ حيث سيطر الجمهوريون على الكونجرس في إدارته الثانية، بينما سيطر الجمهوريون على البيت الأبيض في الفترة ما بين العام 2001م والعام 2008م.

وفي هذا الإطار تتداعى إلى الأذهان الأجندة التي يتبنَّاها الجمهوريون في مجال السياسة الخارجية، سواءٌ ما عبَّرت عنه الحملة الانتخابية للرئيس الجديد باراك أوباما أو السلوك التصويتي ومشروعات القوانين التي يتبنَّاها النواب والشيوخ الديمقراطيون في الكونجرس الأمريكي بمجلسيه طيلة العقدين الذين مَضَيا منذ انتهاء الحرب الباردة وانهيار الكتلة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفيتي السابق، وتبدُّل أولويات السياسة الخارجية الأمريكية في العالم، وتحوُّل اهتمام الأمريكيين إزاء البلدان التي تحكمها النظم الديكتاتورية التي تحوَّلت أولويات الإدارة الأمريكية تجاهها، بعد انتفاء الحاجة إليها بانتهاء الحرب الباردة.



وكانت الإدارة الثانية للرئيس الأمريكي الجمهوري السابق جورج بوش الابن فترةَ انقطاعٍ لهذا التوجُّه الذي أرسته إدارتا كلينتون؛ حيث أعادت الحرب على الإرهاب حاجة البيت الأبيض لخدمات أنظمة تنتهك حقوق شعوبها.

ومن بين الثوابت التي يتبنَّاها الديمقراطيون في هذا المقام وضع حقوق الإنسان "قدر الإمكان" معيارًا لرسم اتجاهات العلاقات بين الولايات المتحدة وبلدان العالم المختلفة، ومن بين ذلك تحديد سياسات المعونات وعلاقات التحالف بين واشنطن وأيَّةِ عاصمةٍ أخرى بمدى احترام الحكومات لحقوق الإنسان؛ بما في ذلك قضية الحريَّات الدينية، ومسألة الأقليَّات، والمسيحية على وجه الخصوص، بالإضافة إلى موضوع معاداة السامية، والموقف من الكيان الصهيوني.

وفي هذا الإطار لدينا مؤشران شديدا الأهمية، وخصوصًا فيما يخص وضعيةَ العالم العربي في ميزان العلاقات الأمريكية:


الأول: هو ما قاله الرئيس الأمريكي باراك أوباما في خطاب تنصيبه في العشرين من يناير الماضي؛ عندما حذَّر الأنظمة العربية من أنَّ أحدًا لن يحاسبها، بل إن الحساب الوحيد الذي سوف تحاسبه سوف يكون على أيدي شعوبها، كما أكد أنَّ الأمر الوحيد الذي سوف تراعيه الولايات المتحدة في سياساتها الخارجية هو اعتبارات الأمن القومي الأمريكي.

الثاني: التصريح الخاص بوزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون أمس الأربعاء 25 فبراير خلال إيجازٍ صحفيٍّ لها بمناسبة صدور التقرير؛ حيث قالت إن الولايات المتحدة "ستنخرط بسبل تقليدية وغير تقليدية لتعزيز قيم حقوق الإنسان حول العالم".

وأضافت: "على سياستنا الخارجية أن تعزِّز هذه القيم الخالدة؛ حتى يمكن للناس الكلام والتفكير والعبادة والتجمع بحرية، والقيام بعملهم، والعيش مع أسرهم في حياةٍ كريمةٍ، ومعرفة أنَّ أحلام مستقبلٍ مشرقٍ في متناول يدهم".

وختمت قائلةً: "أعتقد بشدة أن علينا الاعتماد على أكثر من مقاربة فيما نسعى جاهدين للتغلب على الاستبداد والقهر الذي يضعف الروح الإنسانية ويحدّ من الإمكانيات البشرية ويقوِّض التقدم الإنساني".

وهو ما يُعيد إلى الأذهان ما سبق أنْ طرحته إدارة بل كلينتون في شأن إمكان استخدام مختلف الأدوات لحماية حقوق الإنسان؛ بما في ذلك مبدأ التدخُّل في الشئون الداخلية للدول لحماية حقوق الإنسان، أو فرض عقوباتٍ على البلدان التي تنتهك حقوق الإنسان، وهو مبدأ قطعت تنفيذه أحداث 11 سبتمبر 2001م، والتي لم تترك مجالاً للبيت الأبيض لتنفيذ خططه في هذا الأمر.



كما أنَّه على مستوى أنشطة النواب الديمقراطيين في الكونجرس الأمريكي، يُلاحظ أنَّهم في الأغلب هم من يتبنَّون مشروعات القوانين الخاصة بالحريات وحقوق الإنسان، ومن بينها قانون تقدم الديمقراطية الصادر قبل أربع سنوات ومشروعات القوانين الخاصة بحقوق الإنسان في مصر؛ التي تطالب بتقليص المعونات العسكرية أو إلغاء المعونات المقدمة إلى مصر؛ بسبب سجلِّ النظام في مجال حقوق الإنسان، أو مطالب محدَّدة للأمريكيين في شأن الحالة القبطية في مصر.

ويحرص الديمقراطيون على أنْ يضعوا في الواجهة معهم بعض النواب الجمهوريين؛ كي يبدو الأمر أمام الرأي العام الداخلي والخارجي على أنَّ تلك هي مطالب الأمة الأمريكية ككلٍّ، وليس مطالب فصيل واحد فيها، ومن بين هؤلاء النواب توم لانتوس وفرانك وولف وأرلين سبكتر.ومن هنا فإنَّ التقرير الجديد يكتسب أهميةً قصوى، مع وجود إدارة بهذه الطبيعة وهذه الخلفيات وراء آليات تنفيذ ما ورد في التقرير الجديد من توصيات.



التقرير ومشكلاته


بدايةً لاحظ التقرير وجود 3 محاور رئيسية لممارسات حقوق الإنسان في العالم في العام 2008م، وهي:
1- تزايد الاهتمام أو ما أسماه التقرير بـ"الطلب العالمي" على قدرٍ أكبر من الحريات الفردية والسياسية.
2- وجود جهود حكومية أكبر من سابقتها في العام 2008م لدفع هذه الحريات الى الوراء.
3- التأكيد على "حقيقةٍ تاريخيةٍ أمريكيةٍ"، وهي أنَّ حقوق الانسان "تزدهر على أفضل وجهٍ" في الديمقراطيات التي تشارك في عملها منظمات المجتمعات المدني.

وركَّز التقرير في تقييمه السلبي على أوضاع حقوق الإنسان في العالم العربي، أو المنطقة التي تسمَّى في العرف الجيوسياسي الأمريكي باسم منطقة "الشرق الاوسط وشمال إفريقيا"؛ حيث أكد التقرير أنه لا يزال هناك "تحديات جدية مستمرة لترويج الديمقراطية في هذه المنطقة، إلا أنه أشار إلى وجود بعض التقدم كما في العراق، وهو أمرٌ مفهومٌ بطبيعة الحال في ظل كون الولايات المتحدة هي التي تسيِّر الأوضاع في العراق.

أما عن مصر فإنَّ التقرير ركَّز في انتقاداته على الآتي:
1- الاستمرار في وضع قيود أمام حركة الإصلاح السياسي والتقدم الديمقراطي.
2- وجود المزيد من الانتهاكات لحقوق الإنسان في التعبير عن رأيه.
3- الاستمرار في اعتقال الناشطين الحقوقيين والسياسيين، وكذلك الصحفيين بسبب أفكارهم.
4- وجود قيود كبرى على الإعلام؛ بما في ذلك المدونات الإلكترونية.
5- وجود قيود على الحريات الدينية؛ في إشارة إلى أوضاع الأقباط في مصر.



وقال التقرير: إنَّ هناك حالةً من التمييز الاجتماعي والقانوني في مصر ضمن أوضاع عامة موجودة في المنطقة، كما ندَّد التقرير باستمرار حالة الطوارئ في مصر واستخدام أجهزة الأمن ما وصفه التقرير بـ"أسلحة قاتلة ووسائل التعذيب في مواجهة المعتقلين والسجناء".

وبالرغم من أنَّ التقرير لم يُشِر إلى ذلك صراحةً؛ فإنَّ المحاكمات العسكرية التي جرت لقياداتٍ من جماعة الإخوان المسلمين وكذلك لبعض قيادات المعارضة مثل مجدي حسين الأمين العام لحزب العمل تدخل في نطاق التمييز القانوني هذا.

ويعدُّ تجاوز التقرير عن المحاكمات العسكرية التي جرت لأربعين من قيادات الإخوان وبعض رموز المعارضة أحد أبرز نقاط القصور فيه، والتي تعبِّر في الواقع عن الانتقائية القائمة فيه كما سبق القول.

وبشكل عامٍ أشار التقرير إلى أنَّ أوضاع حقوق الإنسان شهدت خلال العام 2008م تدهورًا ملحوظًا في مصر، بجانب بلدانٍ أخرى مثل موريتانيا وإيران والصين وإريتريا والكونغو الديمقراطية وزيمبابوي وأرمينيا وسيريلانكا وكوبا وفنزويلا.

بينما ذكر أنَّ مجالات حقوق الإنسان شهدت تحسنًا في كلٍّ من العراق وتايلاند وبنجلاديش وكولومبيا وجواتيمالا، بينما قال إنَّ بورما وروسيا البيضاء وكوريا الشمالية وتونس وأوزباكستان لا تزال تشهد ما وصفه بـ"انتهاكاتٍ منهجيةٍ" لحقوق الإنسان.

وفيما يخص أبرز بلدان عالمنا العربي والإسلامي قال التقرير: إنَّ إيران وليبيا وسوريا تستمر في إجراءات حبس الناشطين الحقوقيين والسياسيين وكذلك الصحفيين، وركَّز التقرير على إيران، وقال إنَّ طهران تعتقل وتضطهد "باستمرار" الناشطين في مجال حقوق المرأة والنشطاء من الطلبة في البلاد، كما اتهم السلطات بالتضييق على مؤسسات المجتمع المدني.

أما في مجال الحريات الدينية فقد سلط التقرير الضوء على قيام السلطات الإيرانية باعتقال سبعة من زعماء المذهب البهائي في البلاد، كما ركَّز- للغرابة- على إنكار الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد وجودَ الكيان الصهيوني، وذلك كلون من ألوان انتهاك الحريات الدينية!.

ومن بين الأمور السياسية التي ركَّز عليها التقرير في العالم العربي والإسلامي قانون النقابات الجديد في الأردن، والذي تنتقده المعارضة الأردنية بسبب إعطائه الحكومة الحق في حلِّ أي مؤسسة نقابية ورفض تسجيل المؤسسات الخيرية لأي سبب من الأسباب.

أما في السودان فقد استمر التقرير في اتهام الحكومة السودانية بمواصلة دعم ميليشيات الجنجويد التي يتهمها الغرب بالمسئولية عما يصفه بـ"مجازر" دارفور، كما اتهم التقرير الحكومة السودانية وميليشيات الجنجويد بالمسئولية عن مصرع وتهجير "مئات الآلاف" من المدنيين في إقليم دارفور المشتعل غربي السودان، مع دخول الأزمة هناك لعامها الخامس.

اللافت أنَّ التقرير أشار أيضًا إلى معتقل جوانتنامو؛ حيث لا يزال هناك 245 معتقلاً من جنسياتٍ مختلفةٍ منذ سنواتٍ دون محاكمةٍ؛ باعتباره أحد مظاهر انتهاك حقوق الإنسان في العالم، إلا أن التقرير أشار إلى توقيع الرئيس الأمريكي باراك أوباما قرارًا تنفيذيًّا فور تنصيبه رئيسًا بإغلاق هذا المعتقل في غضون عام.