حببني أبو تريكة في كرة القدم، ورغم علاقتي التي توترت حينًا، وانقطعت في حين آخر، ففي المرات التي أتيح لي أن أتابعه فيها كنت أجده لاعبًا ماهرًا ينزل إلى الملعب وكأنه مقدم على نزهةٍ وليس معركةً، ويتعامل مع الكرة باعتباره صديقًا لها وليس لاعبًا بها، وأحيانًا كنت أجده فنانًا يُغازل الكرةَ ويغزل بها، في حين يبدو غيره، وكأنهم شلة فتوات سلَّطهم مدربهم على الفريق الآخر، لم أعرفه ولم ألتقه يومًا ما، وكان ما سمعته عنه يزكيه دائمًا ويصوره بحسبانه إنسانًا متواضعًا ومستقيمًا، ذا أدبٍ جم وخُلق رفيع؛ لكن كل ذلك كله في كفة، وما فعله في مباراة الفريق القومي ضد فريق السودان في كفةٍ أخرى؛ حيث اكتشفت له وجهًا آخر أصيلاً ومضيئًا، فحين انتهز فرصة تسديدة لهدفه، وفي لحظة تسليط الأضواء، والعدسات عليه بعد الإنجاز الذي حققه، فإنه كشف عن قميصه الداخلي الذي كُتبت عليها بالإنجليزية والعربية عبارة "تعاطفًا مع غزة"، واعتبرت أن الرسالةَ التي وجهها في تلك اللحظة كانت هدفًا آخر ثمينًا للغاية، أحدث صدمةً كهربائيةً للملايين الذين كانوا يتابعون المباراة ذكَّرتهم بأن ثمةَ حدثًا جللاً وكارثةً إنسانيةً، وقعت في غزة، تستحق من كلِّ إنسانٍ شريفٍ أن يتضامن مع ضحايا في محنتهم.
فهمي هويدي فوجئتُ بالتصرف وأكبرته، إذْ لم يخطر على بالي أن ينشغل نجمٌ كبيرٌ في عالمِ الرياضة بهم سياسي في حجم القضية الفلسطينية، واستغربتُ أن ينزل صاحبنا إلى الملعب، وهو مشغولٌ ليس فقط بتسديد الأهداف، ولكن أيضًا بلفتِ الأنظار إلى الجريمة التي شهدتها غزة، داعيًا الجميع إلى التضامن معها، وأدهشني ما قرأتُه عن أنه لجأ إلى المترجمين المصاحبين للفريق القومي لكي يكتب له عبارة التضامن بالإنجليزية، ثم بحث وهو في غانا عن جهةٍ تتولى طبعها على قميصه الداخلي، لكي يرفع اللافتة أثناء المباراة، وازداد إكباري له حين قرأتُ أنه عرَّض نفسه للمحاسبة، وربما الإيقاف حين رفع شعارًا سياسيًّا أثناء اللعب، وهو ما تحظره قوانين الفيفا.
استسخفتُ الشائعات التي أطلقها البعض، ونسبت إليه انضمامه إلى الإخوان المسلمين التي تعد في خطاب الإعلام والسياسة في مصر نجاسة سياسية ينبغي أن يتطهر منها المواطن الصالح، وقلتُ على الفور: هذا مواطن مصري أصيل، ابن شرعي لبلده وأمته، لم تمح ذاكرته ولم يشوه إدراكه، ولم تُفسده الأضواء ولا الشهرة؛ ولأن ضميره ظل حيًّا ونقيًّا، فإنه لم ينسَ انتماءه ولا قضية أمته، فأعلن موقفه على الملأ بمنتهى الشجاعة والهدوء، وهو بهذه المواصفات يُقدِّم نموذجًا يستحق الاحترام والتقدير.
لقد أعادني أبو تريكة بأدائه وموقفه إلى مقاعد مشاهدي كرة القدم، حتى ضربتُ صفحًا عن ذكرياتي القديمة معها، حين كنا، ونحن تلاميذ في الابتدائية نلاعب فريقًا من أبناء المنطقة التي نسكنها بحلوان، وقفزت لأضرب الكرة برأسي فإذا بي اصطدم برأس لاعب في الفريق الآخر وتشج رأسانا، فنسقط وقد كست الدماء وجهينا؛ الأمر الذي استوجب إجراء عدة غرز في جبهة كل واحد منا لا يزال أثرها باقيًا عندي حتى الآن، وكان اللاعب الآخر الذي شُجَّ رأسه هو الكابتن محمود الجوهري الذي أصبح الآن مديرًا فنيًّا لاتحاد كرة القدم.
هذه الحادثة أصابتني بعقدة من كرة القدم في وقتٍ مبكرٍ نسيتها وتجاوزتها بمضي الوقت، لكن العقد تجددت مع هزيمة يونيو 1967، التي لا أعرف لماذا أصابتني بالزهد في الرياضة كلها، بحيث انقطعت عن مشاهدة مباريات كرة القدم وبعد مضي عقد أو اثنين عُدت إلى مشاهدتها بصورةٍ متقطعةٍ في أوقات الفراغ، إلى أن ظهر أبو تريكة في الأفق وتغير بصورة كلية بعد ذلك.
ما فعله معي أبو تريكة سبقه إليه محمد علي كلاي، ذلك أنني جربتُ حظي في الملاكمة يومًا ما، ودخلت إلى الحلبة لكي أتدرب مع زميل دراسة في حلوان، هو وفائي شاكر الشقيق الأكبر لرئيس محكمة النقض الحالي مقبل شاكر، لكني حين سددت إليه أول ضربة نزفت أنفه وأغرقت الدماء وجهه، فركضت خارج القاعة، ولم أعد إلى الحلبة حتى الآن، إلا أن فن محمد علي كلاي في الأداء حببني في الملاكمة بعد ذلك وصالحني عليها، وهي مصالحة انتهت باعتزاله الذي اعتبرته عودة إلى عصر التناطح في تلك الرياضة العنيفة.. شكرًا أبو تريكة.
----------------
* الدستور 29/1/2008م
فهمي هويدي فوجئتُ بالتصرف وأكبرته، إذْ لم يخطر على بالي أن ينشغل نجمٌ كبيرٌ في عالمِ الرياضة بهم سياسي في حجم القضية الفلسطينية، واستغربتُ أن ينزل صاحبنا إلى الملعب، وهو مشغولٌ ليس فقط بتسديد الأهداف، ولكن أيضًا بلفتِ الأنظار إلى الجريمة التي شهدتها غزة، داعيًا الجميع إلى التضامن معها، وأدهشني ما قرأتُه عن أنه لجأ إلى المترجمين المصاحبين للفريق القومي لكي يكتب له عبارة التضامن بالإنجليزية، ثم بحث وهو في غانا عن جهةٍ تتولى طبعها على قميصه الداخلي، لكي يرفع اللافتة أثناء المباراة، وازداد إكباري له حين قرأتُ أنه عرَّض نفسه للمحاسبة، وربما الإيقاف حين رفع شعارًا سياسيًّا أثناء اللعب، وهو ما تحظره قوانين الفيفا.
استسخفتُ الشائعات التي أطلقها البعض، ونسبت إليه انضمامه إلى الإخوان المسلمين التي تعد في خطاب الإعلام والسياسة في مصر نجاسة سياسية ينبغي أن يتطهر منها المواطن الصالح، وقلتُ على الفور: هذا مواطن مصري أصيل، ابن شرعي لبلده وأمته، لم تمح ذاكرته ولم يشوه إدراكه، ولم تُفسده الأضواء ولا الشهرة؛ ولأن ضميره ظل حيًّا ونقيًّا، فإنه لم ينسَ انتماءه ولا قضية أمته، فأعلن موقفه على الملأ بمنتهى الشجاعة والهدوء، وهو بهذه المواصفات يُقدِّم نموذجًا يستحق الاحترام والتقدير.
لقد أعادني أبو تريكة بأدائه وموقفه إلى مقاعد مشاهدي كرة القدم، حتى ضربتُ صفحًا عن ذكرياتي القديمة معها، حين كنا، ونحن تلاميذ في الابتدائية نلاعب فريقًا من أبناء المنطقة التي نسكنها بحلوان، وقفزت لأضرب الكرة برأسي فإذا بي اصطدم برأس لاعب في الفريق الآخر وتشج رأسانا، فنسقط وقد كست الدماء وجهينا؛ الأمر الذي استوجب إجراء عدة غرز في جبهة كل واحد منا لا يزال أثرها باقيًا عندي حتى الآن، وكان اللاعب الآخر الذي شُجَّ رأسه هو الكابتن محمود الجوهري الذي أصبح الآن مديرًا فنيًّا لاتحاد كرة القدم.
هذه الحادثة أصابتني بعقدة من كرة القدم في وقتٍ مبكرٍ نسيتها وتجاوزتها بمضي الوقت، لكن العقد تجددت مع هزيمة يونيو 1967، التي لا أعرف لماذا أصابتني بالزهد في الرياضة كلها، بحيث انقطعت عن مشاهدة مباريات كرة القدم وبعد مضي عقد أو اثنين عُدت إلى مشاهدتها بصورةٍ متقطعةٍ في أوقات الفراغ، إلى أن ظهر أبو تريكة في الأفق وتغير بصورة كلية بعد ذلك.
ما فعله معي أبو تريكة سبقه إليه محمد علي كلاي، ذلك أنني جربتُ حظي في الملاكمة يومًا ما، ودخلت إلى الحلبة لكي أتدرب مع زميل دراسة في حلوان، هو وفائي شاكر الشقيق الأكبر لرئيس محكمة النقض الحالي مقبل شاكر، لكني حين سددت إليه أول ضربة نزفت أنفه وأغرقت الدماء وجهه، فركضت خارج القاعة، ولم أعد إلى الحلبة حتى الآن، إلا أن فن محمد علي كلاي في الأداء حببني في الملاكمة بعد ذلك وصالحني عليها، وهي مصالحة انتهت باعتزاله الذي اعتبرته عودة إلى عصر التناطح في تلك الرياضة العنيفة.. شكرًا أبو تريكة.
----------------
* الدستور 29/1/2008م